فصل: مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}.

.مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض:

قيل كان وقوع هذا الريح يوم الأربعاء من آخر شهر صفر قال ابن عباس آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ به كثير من الناس وتطيروا منه حتى أنهم تركوا السعي فيه ونسبو لعلي كرم اللّه وجهه أنه قال:
وآخر أربعا في الشهر ترك

ولكن ابن عباس وسيدنا علي على فرض صحة ما نسب إليهما لم يعيناه في صفر ولكن الناس خصوه فيه، وحتى الآن تراهم يتركون أعمالهم ويخرجون إلى النزهات ويعملون فيه أعمالا واهية كتكسير الجرار والسبح في الماء وغيرها من الترهات مع أنه لم يثبت فيها شيء صحيح يركن اليه، وجزم ابن الجوزي بوضع ما روي عن ابن عباس، وقال ابن رجب لا يصح ورفعه غير متفق عليه.
وقال السخاوي طرقه كلها واهية وما جاء في الفردوس عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء إلخ غير معلوم الصحة.
وما أخرجه ابن يعلى عن ابن عباس يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء، ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء، ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح قد ضعفه السخاوي، وضعفوا أيضا خبر الطبراني وهو يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، إذ جاء في الأخبار ما يشعر بمدحه فقد جاء في منهاج الحليمي وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء وذكر برهان الإسلام في شرح تعليم المتعلم نقلا عن صاحب الهداية (ما بدأ شيء يوم الأربعاء إلا وتم)، ولذلك فإن بعض المشايخ يبدأون تدريس طلبتهم فيه وروى عن جابر مرفوعا في غرس الأشجار يوم الأربعاء، وقال سبحان الباعث الوارث آتته أكلها، وهناك أخبار أخر منها ما رواه ابن ماجه، وخرجه الحاكم عن ابن عمرو مرفوعا أيضا لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء ومنها ما يفيد النهي عن قص الأظفار فيه وانه يورث البرص وكرّه بعضهم عيادة المريض فيه وفيه يقال: لم يؤت في الأربعاء مريض إلا دفناه في الخميس.
و لهذا فإن أهالي دمشق يتورعون عن عيادة المريض فيه وقد يغضب أهل المريض إذا وقع هذا ممن لا يعرفه ويولولون عند دخوله، لهذا ينبغي التحاشي عن عيادة المريض يوم الأربعاء لمن يعتقد ذلك لما فيه من إلقاء الرعب على أهل المريض والمريض أيضا لأن العائد لم يقصد بعيادته إلا الأجر وسرور المريض واهله، فإذا علم أن ذلك على العكس كان عليه التباعد عنه، حكي أن رجلا قال لأخيه أخرج في حاجة فقال إنه في يوم الأربعاء، فقال له: ولد فيه يونس عليه السلام، قال قد بانت بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه اللّه. فقال فيه ولد يوسف عليه السلام، قال ما أحسن ما فعل به إخوته حتى طال حبسه وغربته، فقال فيه نصر المصطفى، قال بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر هذا وقد نسب الحافظ الوميطي لعلي كرم اللّه وجهه هذه الأبيات:
فنعم اليوم يوم السبت حقا ** لعيد إن أردت بلا امتراء

وفي الأحد البناء لأن فيه ** تبدى اللّه في خلق السماء

وفي الإثنين إن سافرت فيه ** سترجع بالنجاح وبالثراء

ومن يرد الحجامة فالثلاثا ** ففي ساعاته هرق الدماء

وإن شرب امرؤ يوما دواء ** فنعم اليوم يوم الأربعاء

وفي يوم الخميس قضاء حاج ** فإن اللّه يأذن بالقضاء

وهذا العلم لا يرويه إلا ** نبيّ أو وصيّ الأنبياء

قال الآلوسي لا أظنها تصح عنه، وإن الأيام كلها لا تنفع ولا تضر بذاتها ومن تطيّر بها حاقت به نحوستها، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا اللّه لم يؤثر فيه شيء، وعلى فرض صحة بعض الأخبار من حضرة الرسول من نحوسة آخر أربعا في الشهر من باب النظير ضرورة أنه ليس من الدين بل من فعل الجاهلية، ولا يبني على قول المخمنين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل أيضا، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير عن مثل ذلك اليوم الذي نزل فيه العذاب ووقع فيه الهلاك أي احذروه وجددوا التوبة فيه خشية أن يلحقكم بؤس كما وقع فيمن قبلكم، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم حينما أتى الحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين».
وهكذا ينبغي أن لا يقف أحد في كل موضع وقع فيه عذاب اللّه على بعض خلقه ويتحاشى المرور فيه إلا لقصد الاعتبار وجاءت آثار في غير الأربعاء لم تصح أيضا، منها نعوذ باللّه من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف، ولو فرض صحته فهو في يوم مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه.
ومنها ما جاء في الفردوس من حديث ابن مسعود: خلق اللّه الأمراض يوم الثلاثاء، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلق اللّه جهنم، وفيه سلط ملك الموت على أرواح بني آدم، وفيه قتل قابيل هابيل، وفيه توفي موسى وهارون، وفيه ابتلي أيوب.
وهذا ان صح لا يدل على نحو سعة، وغاية ما فيه أنه وقع فيه ما وقع، وجاء في رواية مسلم (خلف المنفق) أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء هذا واللّه أعلم أنه لا اختصاص ليوم أو ساعة بالنحس والسعد فما من يوم أو ساعة إلا وهما على أناس سعد ونحس على آخرين، باعتبار ما يحدث اللّه تعالى فيهما على خلقه من نعم ونقم.
وإذا تتبعت التواريخ وجدت في كل يوم حوادث عظيمة، وناهيك حادثة عاد فإنها استغرقت الأسبوع كله، فإذا كانت النحوسة لذلك فلم يخل يوم منها فعلى العاقل أن لا يتقيد بشيء من ذلك ويتوكل على اللّه، وليعلم أنه لا دخل للأوقات بما يوقعه اللّه فيها، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، نعم جاء لبعض الأوقات فضل لا ينكر كيوم الجمعة والساعة فيه للإجابة ويوم عرفة وشهر رمضان وليلة القدر وليلتي العيدين، وليلة البراءة، والعاشر من المحرم، ولبعضها ذم كالأوقات التي تكره فيها الصلاة والمحال التي وقع فيها العذاب على الكافرين ولأيام التي كان الهلاك فيها بخصوصها لا مثلها، فقد ثبت أن العنكبوت عشش على الغار الذي دخله محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فهذا بخصوصه ممدوح أما غيره فلا، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام «اقتلوا العنكبوت فإنه شيطان».
وقس على هذا قال تعالى في وصف تلك الريح {تَنْزِعُ النَّاسَ} تقلعهم من محالهم فتدق رقابهم بالأرض فتصيرهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ} أي أصولها من غير فروعها {مُنْقَعِرٍ} منقلع من مغارسه ساقط على الأرض، أي كل واحد من قوم عاد صار كجذع نخل خاو لا حراك به وإنما شبههم بالنخل لطول قامتهم وعظم أجسادهم {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ} فانظروا أيها الناس وتفكروا فيه واستعيذوا من مثله باللّه وتعجبوا منه {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} يتذكر به ويتدبر عاقبة أمره ثم بدأ يذكر القصة الثالثة فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} نبيهم صالحا {بِالنُّذُرِ} الرسل وجاء بلفظ الجمع، لأن تكذيب واحد منهم كتكذيبهم كلهم، لأنهم كلهم مرسلون من اللّه، ومتفقون على أصول الدين والتشريع، ولأن ثمود منحدرون من عاد التي كذبت هودا فلما كذبوا صالحا فكأنهم كذبوا هودا أيضا فمن قبله، ثم بين صورة تكذيبهم بقوله: {فَقالوا أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ} أي لا نتبع واحدا منا لأن الاستفهام انكاري ولا يجاب إلا بلا كما أن الاستفهام التقريري لا يجاب إلا ببلى مثل (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وقالوا {إِنَّا إِذًا} إذا اتبعنا فردا من جنسنا {لَفِي ضَلالٍ} عن الصواب والسداد منحطين عن الحق والهدى {وَسُعُرٍ} جنون أو جمع سعير أي في شدة من العذاب وهذه الجملة في الأصل قول صالح عليه السلام لهم بأنكم إذا لم تتبعوني تكونوا في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر النار في الآخرة فعكسوا عليه قوله لتعنتهم وعتوهم المشعر به حكاية اللّه عنهم وقالوا {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ} الوحي الذي يزعم أنه نزل {عَلَيْهِ} من ربه {مِنْ بَيْنِنا} وفينا من هو على زعمهم أحق منه به وهذا كقول قريش في الآية 31 من سورة الزخرف في ج 2 {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} متكبر حمله بطره لأن يتعظم علينا مع أن فينا من هو أحسن منه للنبوة، فرد اللّه عليهم رد تهديد وتخويف بقوله عز قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} حين نزول العذاب بهم {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} هم أم هو {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} نختبرهم فيها هل يمتثلون أمرنا أم لا {فَارْتَقِبْهُمْ} يا صالح وانظر ماذا يفعلون بها {وَاصْطَبِرْ} على أذاهم ولا تعجل عليهم، وأصل اصطبر اصتبر فأبدلت التاء طاء وهكذا كل ما كان فعله افتعل فان تاءه تقلب طاء، وهو مبالغة اصبر {وَنَبِّئْهُمْ} يا رسولي {أَنَّ الْماءَ} الموجود في القرية هو {قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} يوم للناقة ويوم لهم كلهم {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} في نوبته قال قوم صالح ان كنت نبيا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة فدعا اللّه فأجابه وامتحنهم بقسمة الماء فأبوا وأجمعوا على قتلها الدال عليه قوله: {فَنادَوْا صاحِبَهُمْ} الذي أجمع رأيهم عليه بأن يتولى قتلها {فَتَعاطى} اجترأ دون اكتراث بأنها آية اللّه على صدق نبيهم {فَعَقَرَ} الناقة بالسيف الذي ناولوه إياه {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ} لأمثال هؤلاء أي شيء عظيم هو وبينه بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً} من قبل عبدنا جبرائيل {فَكانُوا} بسببها {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} كيبيس الشجر إذا كسر وحطم وصار محتضرا لوم البهائم وقدمنا في الآية 11 من سورة الشمس ما يتعلق بهذا وله صلة في الآية 157 من سورة الشعراء الآتية وسنفصل القصة إن شاء اللّه في الآية 119 من الأعراف الآتية أيضا قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ثم طفق يبين القصة الرابعة فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} ثم وصف تعذيبهم بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا} ريحا ممزوجة بالحصى الصغار المسمى حصباء وأمرناها بحصبهم جميعا {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ} إذ أوحينا اليه أن يخرج أهله معه آخر الليل لئلا يصيبهم ذلك وأنعمنا عليهم بالنجاة منه {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا} نحن إله الكل {كَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الحسن {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} نعمنا من عبادنا الطائعين وقرئ {نعمة} بالرفع على الخبرية، أي وهذا الإنجاء نعمة من لدنا وبالنصب مفعول مطلق وعليه المصاحف وهو أليق {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ} نبيهم لوط عليه السلام {بَطْشَتَنا} هذه وحذرهم عقوبتنا القاسية ليؤمنوا فلم ينجح بهم بل أصروا على تكذيبه والسخرية به كما يدل عليه قوله: {فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ} وشكوا بصدقهم بل كذبوهم لأن الفعل يتضمن معنى التكذيب إذ عدي بالياء، ولو كان المراد الشك لعدي بالفاء إذ يقال شك في الأمر وكذب به، تأمل {وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي طلبوا منه أن يفتعلوا بهم وحاولوا فتح الباب ليفجروا بهم وقد عجز عن مقاومتهم {فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ} بصفقة من جناح عبدنا جبريل فصير عيونهم من جملة وجوهم حتى كأنها لم تنشق، ومنعناهم من التعرض لأضيافه بعد أن خالفوه وأرادوا أن يدخلوا داره قسرا عنه ليتعرضوا لأضيافه فنصره ربه وقال: {فَذُوقُوا} أيها الفاحشون الخبثاء {عَذابِي} الذي أوقعه عليكم {وَنُذُرِ} أي ما أنذرتكم به على لسان نبيكم من العذاب {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} هي أخص في الصباح لأنها تطلق على الغدوة أيضا بخلافه {عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ} ثابت دائم إلى يوم القيامة حتى يقضى بسوقهم إلى النار ويقال لهم فيها {فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ} تشديدا للعذاب وزيادة للحسرة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وفي تكرير هذه الآية معنى آخر وهو حث للسامع على تجديد الاتعاظ وتكرير الانتباه عند سماع تكرار هذه الآية آخر كل قصة لتكون عبرة دائمة في القلوب مستمرا تصورها في الأذهان وكذلك الأمر في تكرار {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات المارة، وجملة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} من سورة الرحمن في ج 3.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} أي موسى وهرون {كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها} أي الآيات التسع الآتية في سورة الأعراف مفصلة من الآية 102 فما بعد {فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} غالب قهار جبار لا يعجزه شيء ولا يحول دون أمره شيء {أَكُفَّارُكُمْ} يا أمة محمد ويا أهل مكة {خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ} الذين قصصنا عليكم أمرهم وكيفية تعذيبهم في الدنيا وما خبأناه لهم في الآخرة أدهى وأمر وأدوم {أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ} يأمنكم من الإهلاك أخبرتم بها أم نزلت عليكم {فِي الزُّبُرِ} الكتب المتقدمة، كلا لا مأمن لكم من العذاب البتة ولستم بأحسن ممن قبلكم ولا أقل كفرا منهم ولم ينزل بأمتكم من عذاب اللّه شيء وسيصيبكم ما أصابهم إن لم تؤمنوا.

.مطلب الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله:

وهذه أولى الآيات المدنيات قال تعالى: {أَمْ يَقولونَ نَحْنُ} الذين حضروا واقعة بدر كما سيأتي بيانها في الآية 5 من سورة الأنفال في ج 3 {جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} كثيرون أقوياء ممتنعون لا نظلم ولا نرام فردّ عليهم بقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} هاربين لا يلوون على أحد، واعلم يا حبيبي أن ليس الأمر كما يقولون ويتوهمون {بَلِ السَّاعَةُ} هذه التي يتوخون النصر فيها هي {مَوْعِدُهُمْ} للقتل والأسر والسبي في الدنيا وهذه من علامات النبوة حيث صدق اللّه وعده رسوله {وَالسَّاعَةُ} الداهية الدهماء الموعودون بها يوم القيامة {أَدْهى} من عذاب هذه الساعة الدنيوية {وَأَمَرُّ} منها مذاقا وأدوم عذابا من القتل والأسر والسبي.
انتهت الآيات المدنيات.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه وهو في قبة يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول اللّه فقد ألححت على ربك، فخرج وهو في الدرع وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}».
وقد مر في الآية 14 من سورة الأعلى المارة أن هذه الآية مما تأخر حكمها عن نزولها وهو الصحيح واللّه أعلم لأنها إحدى الآيات السبع المبينين هناك أربع منها وهذه الخامسة والسادسة الآية 56 من سورة النور ج 3 وهي {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} والسابعة: قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ} الآية 21 من سورة الفتح في ج 3 أيضا وللبحث صلة في تفسير هاتين الآيتين الأخيرتين بمحلهما إن شاء اللّه.
أما الأربع الأول فقد تقدم في سورة الأعلى بيانها وسببها قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} من الأولين والآخرين {فِي ضَلالٍ} في هذه الدنيا {وَسُعُرٍ} في الآخرة {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ} وتقول لهم زبانية العذاب {ذُوقُوا} أيها المجرمون {مَسَّ سَقَرَ} ألمها عند ما تمس جلودكم كما يقال الآن ذق طعم الضرب ومس الحمّى قال تعالى ردا لما يقال من قبل أهل الضلال {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} معلوم وتقدير سابق مثبت في اللوح المحفوظ وسنظهره عند إرادتنا له قال ابن عباس كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خذك، روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «كتب اللّه مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء» أي قبل خلقهما.